فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وجاءه قومه يهرعون إليه}
قال ابن عباس وقتادة يسرعون إليه وقال مجاهد يهرولون، وقال الحسن: الإهراع هو مشي بين مشيين وقال شمر هو بين الهرولة والخبب والجمز: {ومن قبل} يعنى من قبل مجيء الرسل إليهم قيل ومن قبل مجيئهم إلى لوط: {كانوا يعملون السيئات} يعني الفعلات الخبيثة والفاحشة القبيحة وهي إتيان الرجال في أدبارهم: {قال} يعني: قال لوط لقومه حين قصدوا أضيافه وظنوا أنهم غلمان من بني آدم: {يا قوم هؤلاء بناتي} يعني أزواجكم إياهن وقى أضيافه ببناته قيل إنه كان في ذلك الوقت وفي تلك الشريعة تزويج المرأة المسلمة بالكافر، وقال الحسن بن الفضل: عرض بناته عليهم بشرط الإسلام، وقال مجاهد وسعيد بن جبير: أراد ببناته نساء قومه وأضافهن إلى نفسه لأن كل نبي أبو أمته وهو كالوالد لهم وهذا القول هو الصحيح وأشبه بالصواب إن شاء الله تعالى والدليل عليه أن بنات لوط كانتا إثنتين وليستا بكافيتين للجماعة وليس من المروءة أن يعرض الرجل بناته على أعدائه ليزوجهن إياهم فكيف يليق ذلك بمنصب الأنبياء أن يعرضوا بناتهم على الكفار وقيل إنما قال ذلك لوط على سبيل الدفع لقومه لا على سبيل التحقيق وفي قوله: {هن أطهر لكم} سؤال وهو أن يقال أن قوله هو أطهر لكم من باب أفعل التفضيل فيقتضي أن يكون الذي يطلبونه من الرجال طاهرًا ومعلوم أنه محرم فاسد نجس لا طهارة فيه البتة فكيف قال هن أطهر لكم والجواب عن هذا السؤال إن هذا جار مجرى قوله ذلك خير نزلًا أم شجرة الزقوم ومعلوم أن شجرة الزقوم لا خير فيها وكقوله صلى الله عليه وسلم لما قال يوم أحد اعل هبل قال الله أعلى وأجل إذ لا مماثلة بين الله والصنم وإنما هو كلام خرج مخرج المقابلة ولهذا نظائر كثيرة.
وقوله: {فاتقوا الله} يعني خافوه وراقبوه واتركوا ما أنتم عليه من الكفر والعصيان: {ولا تخزون في ضيفي} يعني ولا تسوءني في أضيافي ولا تفضحوني معهم: {أليس منكم رجل رشيد} أي صالح سديد عاقل، وقال عكرمة: رجل يقول لا إله إلا الله، وقال محمد بن إسحاق: رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر حتى ينهى عن هذا الفعل القبيح: {قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق} يعني ليس لنا بهن حاجة ولا لنا فيهن شهوة وقيل معناه ليست بناتك لنا بأزواج ولا مستحقين نكاحهن وقيل معناه مالنا في بناتك من حاجة لأنك دعوتنا إلى نكاحهن بشرط الإيمان ولا نريد ذلك: {وإنك لتعلم ما نريد} يعني من إتيان الرجال في أدبارهم فعند ذلك: {قال} لوط عليه السلام: {لو أن لي بكم قوة} أي لو أني أقدر أن أتقوى عليكم: {أو آوي إلى ركن شديد} يعني أو أنضم إلى عشيرة يمنعوني منكم، وجواب لو محذوف تقديره لو وجدت قوة لقاتلتكم أو لوجدت عشرة لانضممت إليهم قال أبو هريرة: ما بعث الله نبيًا بعده إلا في منعة من عشيرته عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يرحم الله لوطًا لقد كان يأوي إلى ركن شديد ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف ثم أتاني الداعي لأجبته» قال الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله: المراد بالركن الشديد هو الله فإنه أشد الأركان وأقواها وأمنعها ومعنى الحديث أن لوطًا عليه السلام لما خاف على أضيافه ولم تكن له عشيرة تمنعهم من الظالمين ضاق ذرعه واشتد حزنه عليهم فغلب ذلك عليه فقال في تلك الحال لو أن لي بكم قوة في الدفع بنفسي أو آوي إلى عشيرة تمنع لمنعتكم وقصد لوط إظهار العذر عند أضيافه وأنه لو استطاع لدفع المكروه عنهم ومعنى باقي الحديث فيما يتعلق بيوسف عليه السلام يأتي في موضعه من سورة يوسف إن شاء الله تعالى، قال ابن عباس وأهل التفسير: أغلق لوط بابه والملائكة معه في الدار وجعل يناظر قومه ويناشدهم من وراء الباب وقومه يعالجون سور الدار فلما رأت الملائكة ما لقي لوط بسببهم. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا}
الذرع مصدر ذرع البعير بيديه في سيره إذا سار على قدر خطوه، مأخوذ من الذراع، ثم وضع موضع الطاقة فقيل: ضاق به ذرعًا.
وقد يجعلون الذراع موضع الذرع قال:
إليك إليك ضاق بها ذرعًا

وقيل: كنى بذلك عن ضيق الصدر.
العصيب والعصبصب والعصوصب الشديد اللازم، الشر الملتف بعضه ببعض قال:
وكنت لزاز خصمك لم أعدد ** وقد سلكوك في يوم عصيب

قال أبو عبيدة: سمى عصيبًا لأنه يعصب الناس بالشر، والعصبة والعصابة الجماعة المجتمعة كلمتهم، أو المجتمعون في النسب.
وتعصبت لفلان وفلان معصوب أي: مجتمع الخلق.
الإهراع: قال شمر مشي بين الهرولة والجمز.
وقال الهروي: هرع الرجل وأهرع استحث.
الضيف: مصدر، وإذا أخبر به أو وصف لم يطابق في تثنية ولا جمع، هذا المشهور.
وسمع فيه ضيوف وأضياف وضيفان.
الركن: معروف وهو الناحية من البيت، أو الجبل.
ويقال: ركن بضم الكاف، ويجمع على أركان وأركن.
وركنت إلى فلان انضويت إليه.
{ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعًا وقال هذا يوم عصيب وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد}: خرجت الملائكة من قرية إبراهيم إلى قرية لوط وبنيهما قيل: ثمانية أميال. وقيل: أربعة فراسخ، فأتوها عشاء. وقيل: نصف النهار، ووجدوا لوطا في حرث له.
وقيل: وجدوا ابنته تستقي ماء في نهر سدوم، وهي أكبر حواضر قوم لوط، فسألوها الدلالة على من يضيفهم، ورأت هيئتهم فخافت عليهم من قوم لوط وقالت لهم: مكانكم، وذهبت إلى أبيها فأخبرته، فخرج إليهم فقالوا: إنّا نريد أنْ تضيفنا الليلة فقال لهم: أو ما سمعتم بعمل هؤلاء القوم؟ فقالوا: وما عملهم؟ فقال: أشهد بالله انهم شر قوم في الأرض.
وقد كان الله قال للملائكة: لا تعذبوهم حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات، فلما قال هذه قال جبريل: هذه واحدة، وتردد القول منهم حتى كرر لوط الشهادة أربع مرات، ثم دخل لوط المدينة فحينئذ سيء بهم أي: لحقه سوء بسببهم، وضاق ذرعه بهم، وقال: هذا يوم عصيب أي شديد، لما كان يتخوفه من تعدى قومه على أضيافه.
وجاءه قومه يهرعون إليه، لما جاء لوط بضيفه لم يعلم بذلك أحد إلا أهل بيته، فخرجت امرأته حتى أتت مجالس قومها فقالت: إن لوطًا قد أضاف الليلة فتية ما رؤي مثلهم جمالًا وكذا وكذا، فحينئذ جاؤوا يهرعون أي: يسرعون، كما يدفعون دفعًا فعل الطامع الخائف فوت ما يطلبه.
وقرأ الجمهور: يهرعون مبنيًا للمفعول من أهرع أي يهرعهم الطمع.
وقرأت فرقة: يهرعون بفتح الياء من هرع.
وقال مهلهل:
فجاؤوا يهرعون وهم أسارى ** يقودهم على رغم الانوف

ومن قبل كانوا يعملون السيآت أي: كان ذلك ديدنهم وعادتهم، أصروا على ذلك ومرنوا عليه، فليس ذلك بأول انشاء هذه المعصية، جاؤا يهرعون لا يكفهم حياء لضراوتهم عليها، والتقدير في ومن قبل أي: من قبل مجيئهم.
إلى هؤلاء الاضياف وطلبهم إياهم. وقيل: ومن قبل بعث لوط رسولًا إليهم. وجمعت السيآت وإن كان المراد بها معصية اتيان الذكور، إما باعتبار فاعليها، أو باعتبار تكررها. وقيل: كانت سيآت كثيرة باختلاف أنواعها، منها اتيان الذكور، واتيان النساء في غير المأتي، وحذف الحصا، والحيق في المجالس والاسواق، والمكاء، والصفير، واللعب بالحمام، والقمار، والاستهزاء بالناس في الطرقات، ووضع درهم على الأرض وهم بعيدون منه فمن أخذه صاحوا عليه وخجلوه، وإنْ أخذه صبي تابعوه وراودوه.
هؤلاء بناتي: الاحسن أنْ تكون الإضافة مجازية، أي: بنات قومي، أي البنات أطهر لكم، إذ النبي يتنزل منزلة الاب لقومه.
وفي قراءة ابن مسعود: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم} وهو أب لهم ويدل عليه أنَّه فيما قيل: لم يكن له الابنتان، وهذا بلفظ الجمع.
وأيضًا فلا يمكن أنْ يزوج ابنتيه من جميع قومه.
وقيل: أشار إلى بنات نفسه وندبهم إلى النكاح، إذْ كان من سنتهم تزويج المؤمنة بالكافر.
أو على أنَّ في ضمن كلامه أنْ يؤمنوا.
وقيل: كان لهم سيدان مطاعان فاراد أنْ يزوجهما ابنتيه زغورا وزيتا.
وقيل: كنّ ثلاثًا.
ومعنى أطهر: أنظف فعلًا.
وقيل: أحل وأطهر بيتًا ليس أفعل التفضيل، إذ لا طهارة في اتيان الذكور.
وقرأ الجمهور: أطهر بالرفع والأحسن في الإعراب أنّ يكون جملتان كل منهما مبتدأ وخبر.
وجوز في بناتي أنْ يكون بدلًا، أو عطف بيان، وهن فصل وأطهر الخبر.
وقرأ الحسن، وزيد بن علي، وعيسى بن عمر، وسعيد بن جبير، ومحمد بن مروان السدي: أطهر بالنصب.
وقال سيبويه: هو لحن.
وقال أبو عمرو بن العلاء: احتبي فيه ابن مروان في لحنه يعني: تربع.
ورويت هذه القراءة عن مروان بن الحكم، وخرجت هذه القراءة على أنَّ نصب أطهر على الحال.
فقيل: هؤلاء مبتدا، وبناتي هنّ مبتدأ وخبر في موضع خبر هؤلاء، وروي هذا عن المبرد.
وقيل: هؤلاء بناتي مبتدأ وخبر، وهن مبتدأ ولكم خبره، والعامل قيل: المضمر.
وقيل: لكم بما فيه من معنى الاستقرار.
وقيل: هؤلاء بناتي مبتدأ وخبر، وهن فصل، وأطهر حال.
ورد بأنَّ الفصل لا يقع إلا بين جزءي الجملة، ولا يقع بين الحال وذي الحال.
وقد أجاز ذلك بعضهم وادعى السماع فيه عن العرب، لكنه قليل.
ثم أمرهم بتقوى الله في أنْ يؤثروا البنات على الاضياف.
ولا تخزون: يحتمل أنْ يكون من الخزي وهو الفضيحة، أو من الخزاية وهو الاستحياء، لأنّه إذا خزي ضيف الرجل أو جاره فقد خزي هو، وذلك من عراقة الكرم وأصل المروءة.
أليس منكم رجل يهتدي إلى سبيل الحق وفعل الجميل، والكف عن السوء؟ وفي ذلك توبيخ عظيم لهم، حيث لم يكن منهم رشيد البتة.
قال ابن عباس: رشيد مؤمن.
وقال أبو مالك: ناه عن المنكر.
ورشيد ذو رشد، أو مرشد كالحكيم بمعنى المحكم، والظاهر أنَّ معنى من حق من نصيب، ولا من غرض ولا من شهوة، قالوا له ذلك على وجه الخلاعة.
وقيل: من حق، لأنك لا ترى منا كحتنا، لأنّهم كانوا خطبوا بناته فردهم، وكانت سنتهم أنَّ من رد في خطبة امرأة لم تحل له أبدًا.
وقيل: لما اتخذوا اتيان الذكران مذهبًا كان عندهم أنّه هو الحق، وإن نكاح الاناث من الباطل.
وقيل: لأنّ عادتهم كانت أنْ لا يتزوج الرجل منهم إلا واحدة، وكانوا كلهم متزوجين.
وإنك لتعلم ما نريد يعني: من اتيان الذكور، ومالهم فيه من الشهوة.
قال: لو أنّ لي بكم قوة، قال ذلك على سبيل التفجع.
وجواب لو محذوف كما حذف في: {ولو أن قرآنًا سيرت به الجبال} وتقديره: لفعلت بكم وصنعت.
والمعنى في إلى ركن شديد: من يستند إليه ويمتنع به من عشيرته، شبه الذي يمتنع به بالركن من الجبل في شدته ومنعته، وكأنه امتنع عليه أن ينتصر ويمتنع بنفسه أو بغيره مما يمكن أن يستند إليه.
وقال الحوفي، وأبو البقاء: أو آوي عطف على المعنى تقديره: أو أني آوي.
والظاهر أن أو عطف جملة فعلية، على جملة فعلية إن قدرت إني في موضع رفع على الفاعلية على ما ذهب إليه المبرد أي: لو ثبت أن لي بكم قوة، أو آوي.
ويكون المضارع المقدر وآوى هذا وقعًا موقع الماضي، ولو التي هي حرف لما كان سيقع لوقوع غيره نقلت المضارع إلى الماضي، وإن قدرت أن وما بعدها جملة اسمية على مذهب سيبويه فهي عطف عليها من حيث أنّ لو تأتي بعدها الجملة المقدرة اسمية إذا كان الذي ينسبك إليها أنّ ومعمولاها.
وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكون أو آوي مستأنفًا انتهى.
ويجوز على رأي الكوفيين أن تكون أو بمعنى بل، ويكون قد أضرب عن الجملة السابقة وقال: بل آوى في حالي معكم إلى ركن شديد، وكنى به عن جناب الله تعالى.
وقرأ شيبة، وأبو جعفر: أو آوي بنصب الياء بإضمار أن بعد، أو فتتقدر بالمصدر عطفًا على قوله: قوة.
ونظيره من النصب بإضمار أنْ بعد أو قول الشاعر:
ولولا رجال من رزام أعزة ** وآل سبيع أو يسوؤك علقما

أي أو ومساءتك علقمًا. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطًا}
قال ابن عباس رضي الله عنهما: انطلَقوا من عند إبراهيمَ عليه السلام إلى لوط عليه السلام وبين القريتين أربعةُ فراسخَ ودخلوا عليه في صور غِلمانٍ مُرْدٍ حسانِ الوجوه فلذلك: {سِئ بِهِمْ} أي ساءه مجيئُهم لظنه أنهم أناسٌ فخاف أن يقصِدهم قومُه ويعجِزَ عن مدافعتهم، وقرأ نافعٌ وابن عامر، والكسائي وأبو عمرو: سيء وسيئت بإشمام السينِ الضمَّ. روي أن الله تعالى قال للملائكة: «لا تُهلكوهم حتى يشهد عليهم لوطٌ أربعَ شهادات» فلما مشى معهم منطلقًا بهم إلى منزله قال لهم: أما بلغكم أمرُ هذه القريةِ؟ قالوا: وما أمرُها؟ قال: أشهد بالله إنها لشرُّ قريةٍ في الأرض عملًا، يقول ذلك أربعَ مراتٍ فدخلوا معه منزلَه ولم يعلم بذلك أحدٌ فخرجت امرأتُه فأخبرت به قومَها وقالت: إن في بيت لوطٍ رجالًا ما رأيتُ مثلَ وجوهِهم قط: {وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا} أي ضاق بمكانهم صدرُه أو قلبُه أو وسعُه وطاقتُه وهو كنايةٌ عن شدة الانقباض للعجز عن مدافعة المكروهِ والاحتيال فيه، وقيل: ضاقت نفسُه عن هذا الحادثِ، وذِكرُ الذرعِ مثلٌ وهو المساحة، وكأنه قدْرُ البدنِ مجازًا أي إن بدنَه ضاق قدرُه من احتمال ما وقع، وقيل: الذراعُ اسمٌ للجارحة من المِرْفق إلى الأنامل، والذرْعُ مدُّها، ومعنى ضيقِ الذرع في قوله تعالى: {وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا} قصرُها كما أن معنى سعتِها وبسطتها طولُها، ووجهُ التمثيلِ بذلك أن القصيرَ الذراعِ إذا مدها ليتناول ما يتناول الطويلُ الذراعِ تقاصر عنه وعجِز عن تعاطيه، فضُرب مثلًا للذي قصُرت طاقتُه دون بلوغِ الأمر: {وَقَالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ} شديدٌ، من عصَبه إذا شدّه.
{وَجَاءهُ} أي لوطًا وهو في بيته مع أضيافه: {قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ} أي يسرعون كأنما يُدفعون دفعًا لطلب الفاحشة من أضيافه، والجملةُ حالٌ من قومه وكذا قوله تعالى: {وَمِن قَبْلُ} أي من قبلِ هذا الوقت: {كَانُواْ يَعْمَلُونَ السيئات} أي جاءوا مسرعين والحال أنهم كانوا منهمكين في علم السيئات فضَرُوا بها وتمرّنوا فيها حتى لم يبقَ عندهم قباحتُها ولذلك لم يستحيُوا مما فعلوا من مجيئهم مهرِعين مجاهرين: {قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاء بَنَاتِى هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} فتزوّجُوهن وكانوا يطلُبونهن من قبلُ ولا يُجيبهم لخبثهم وعدمِ كفاءتِهم لا لعدم مشروعيتِه فإن تزويجَ المسلماتِ من الكفار كان جائزًا وقد زوج النبيُّ عليه الصلاة والسلام ابنتيه من عُتبةَ بنِ أبي لهبٍ، وأبي العاص بنِ الربيع قبل الوحي وهما كافران، وقيل: كان لهم سيدان مطاعان فأراد أن يزوجَهما ابنتيه وأيا ما كان فقد أراد به وقايةَ ضيفِه وذلك غايةُ الكرم، وقيل: ما كان ذلك القولُ منه مُجرًى على الحقيقة من إرادة النكاحِ بل كان ذلك مبالغةً في التواضع لهم وإظهارًا لشدة امتعاضِه مما أرادوه عليه طمعًا في أن يستحيوا منه ويرِقّوا له إذا سمعوا ذلك فينزجروا عما أقدموا عليه مع ظهور الأمر واستقرارِ العلم عنده وعندهم بأن لا مناكحةَ بينهم وهو الأنسبُ بقولهم: لقد علمتَ ما لنا في بناتك من حق كما ستقف عليه: {فاتقوا الله} بترك الفواحش أو بإيثارهن عليهم: {وَلاَ تُخْزُونِ في ضَيْفِى} أي لا تفضحوني في شأنهم فإن إخزاءَ ضيفِ الرجل وجارِه إخزاءٌ له أو لا تخجلوني من الخَزاية وهي الحياء: {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ} يهتدي إلى الحق الصريح ويرعوي عن الباطل القبيح.
{قَالُواْ} معرضين عما نصحهم به من الأمر بتقوى الله والنهي عن إخزائه مجيبين عن أول كلامه: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا في بَنَاتِكَ مِنْ حَقّ} مستشهدين بعلمه بذلك يعنون إنك قد علمتَ ألا سبيلَ إلى المناكحة بيننا وبينك وما عرْضُك إلا عرضٌ سابرِيّ ولا مطمعَ لنا في ذلك: {وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} من إتيان الذُكرانِ، ولما يئس عليه السلام من ارعوائهم عما هم عليه من الغي: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً} أي لفعلتُ بكم ما فعلت وصنعتُ ما صنعت كقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْانًا سُيّرَتْ بِهِ الجبال أَوْ قُطّعَتْ بِهِ الأرض أَوْ كُلّمَ بِهِ الموتى}، {أَوْ آوِى إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ} عطفٌ على أن لي بكم إلى آخره لما فيه من معنى الفعلِ أي لو قوِيتُ على دفعكم بنفسي أو أويت إلى ناصر عزيزٍ قويّ أتمنّع به عنكم، شَبّهه بركن الجبل في الشدة والمنعة. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «رحِم الله أخي لوطًا كان يأوي إلى ركن شديد» روي أنه عليه السلام أغلق بابَه دون أضيافِه وأخذ يجادلهم من وراء الباب فتسوّروا الجدارَ فلما رأت الملائكةُ ما على لوط من الكرب. اهـ.